فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في [الحلية] عن ابن عمر قال: قرئ عند عمر هذه الآية فقال كعب: عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك قال: إني قرأتها قبل {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة} فقال عمر: هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن قال: «بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا».
{لِيَذُوقُواْ العذاب} أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرًا أو على سرايته للباطن، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام، وقيل: السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن، وأنكر بعضهم نضج الجلود بالمعنى المتبادر وتبديلها زاعمًا أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله سبحانه بقوله: {سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] وسميت السرابيل جلودًا للمجاورة، وفيه أنه ترك للظاهر، ويوشك أن يكون خلاف المعلوم ضرورة، وأن السرابيل لا توصف بالنضج وكأنه ما دعاه إلى هذا الزعم سوى استبعاد القول بالظاهر، وليس هو بالبعيد عن قدرة الله سبحانه وتعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

و{نضجت} بلغت نهاية الشيّ، يقال: نضج الشِّواء إذا بلغ حدّ الشيّ، ويقال: نضج الطبيخ إذا بلغ حدّ الطبخ.
والمعنى: كلّما احترقت جلودهم، فلم يبق فيها حياة وإحساس.
بدّلناهم، أي عوّضناهم جلودًا غيرها، والتبديل يقتضي المغايرة كما تقدّم في قوله في سورة البقرة: {أتستبدلون الذي هو أدنى} [البقرة: 61].
فقوله: {غيرها} تأكيد لما دلّ عليه فعل التبديل.
وانتصب {نارًا} على أنَّه مفعول ثان لأنّه من باب أعطَى.
وقوله: {ليذوقوا العذاب} تعليل لقوله: {بدّلناهم} لأنّ الجِلد هو الذي يوصل إحساس العذاب إلى النفس بحسب عادة خلق الله تعالى، فلو لم يبدّل الجلد بعد احتراقه لما وصل عذاب النار إلى النفس.
وتبديل الجلد مع بقاء نفس صاحبه لا ينافي العدل لأنّ الجِلد وسيلة إبلاغ العذاب وليس هو المقصود بالتعذيب، ولأنّه ناشئ عن الجلد الأوّل كما أنّ إعادة الأجسام في الحشر بعد اضمحلالها لا يوجب أن تكون أناسًا غير الذين استحقّوا الثواب والعقاب لأنّها لمّا أُودعت النفوسَ التي اكتسبت الخيرَ والشرّ فقد صارت هي هي ولاسيما إذا كانت إعادتها عن إنبات من أعجاب الأذناب، حسبما ورد به الأثر، لأنّ الناشئ عن الشيء هو منه كالنخلة من النواة. اهـ.

.قال الفخر:

والمراد من العزيز: القادر الغالب، ومن الحكيم: الذي لا يفعل إلا الصواب، وذكرهما في هذا الموضع في غاية الحسن، لأنه يقع في القلب تعجب من أنه كيف يمكن بقاء الإنسان في النار الشديدة أبد الآباد! فقيل: هذا ليس بعجيب من الله، لأنه القادر الغالب على جميع الممكنات، يقدر على إزالة طبيعة النار، ويقع في القلب أنه كريم رحيم، فكيف يليق برحمته تعذيب هذا الشخص الضعيف إلى هذا الحد العظيم؟ فقيل: كما أنه رحيم فهو أيضا حكيم، والحكمة تقتضي ذلك.
فإن نظام العالم لا يبقى إلا بتهديد العصاة، والتهديد الصادر منه لابد وأن يكون مقرونا بالتحقيق صونا لكلامه عن الكذب، فثبت أن ذكر هاتين الكلمتين هاهنا في غاية الحسن. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الله كَانَ عَزِيزًا} أي لم يزل منيعًا لا يدافع ولا يمانع، وقيل: إنه قادر لا يمتنع عليه ما يريده مما تواعد أو وعد به {حَكِيمًا} في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه؛ والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم مع ما مر مرارًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {إنّ الله كان عزيزًا حكيمًا} واقع موقع التعليل لِما قبله، فالعزّة يتأتى بها تمام القدرة في عقوبة المجترئ على الله، والحكمة يتأتّى بها تلك الكيفية في إصلائهم النار. اهـ.

.قال ابن عطية:

وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالعزة والإحكام، لأن الله لا يغالبه مغالب إلا غلبه الله، ولا يفعل شيئًا إلا بحكمة وإصابة، لا إله إلا هو تبارك وتعالى. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

سؤال: فإن قيل وكيف يجوز أن يُبدّلواْ جلودًا غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا فيعذبوا فيها؟
ولو جاز ذلك لجاز أن يُبدَّلواْ أجسامًا، وأرواحًا، غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت في الدنيا، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار غير الذين وعدهم الله في الدنيا على كفرهم بالعذاب بالنار.
وقد أجاب أهل العلمِ عنه بثلاثة أجوبة:
أحدها: أن ألم العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب، فأما الجلد واللحم فلا يألمان فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان عليه وجلدٌ غَيْرُهُ.
والجواب الثاني: أنه تُعَادُ تلك الجلود الأولى جديدة غير محترقة.
والجواب الثالث: أن الجلود المُعادَةَ إنما هي سرابيلهم من قبل أن جعلت لهم لباسًا، فسماها الله جلودًا، وأنكر قائل هذا القول أن تكون الجلود تحترق وتعاد غير محترقة، لأن في حال احتراقها إلى حال إعادتها فناءَها، وفي فنائها راحتها، وقد أخبر الله تعالى: أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم العذاب. اهـ.
سؤالان:
السؤال الأول:
لما كان تعالى قادرا على إبقائهم أحياء في النار أبد الآباد فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل إليها الآلام الشديدة، حتى لا يحتاج إلى تبديل جلودهم بجلود أخرى؟
والجواب: أنه تعالى لا يسأل عما يفعل، بل نقول: إنه تعالى قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاما عظيمة من غير إدخال النار مع أنه تعالى أدخلهم النار.
السؤال الثاني:
الجلود العاصية إذا احترقت فلو خلق الله مكانها جلودًا أخرى وعذبها كان هذا تعذيبا لمن لم يعص وهو غير جائز.
والجواب عنه من وجوه:
الأول: أن يجعل النضج غير النضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة، فإذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي، وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة.
الثاني: المعذب هو الإنسان، وذلك الجلد ما كان جزأ من ماهية الإنسان، بل كان كالشيء الملتصق به الزائد على ذاته، فإذا جدد الله الجلد وصار ذلك الجلد الجديد سببا لوصول العذاب إليه لم يكن ذلك تعذيبا إلا للعاصي.
الثالث: أن المراد بالجلود السرابيل، قال تعالى: {سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] فتجديد الجلود إنما هو تجديد السرابيلات.
طعن القاضي فيه، فقال: إنه ترك للظاهر، وأيضا السرابيل من القطران لا توصف بالنضج، وإنما توصف بالاحتراق.
الرابع: يمكن أن يقال: هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع، كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام: كلما انتهى فقد ابتدأ، وكلما وصل إلى آخره فقد ابتدأ من أوله، فكذا قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُودًا غَيْرَهَا} يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه.
الخامس: قال السدي: إنه تعالى يبدل الجلود من لحم الكافر فيخرج من لحمه جلدا آخر وهذا بعيد، لأن لحمه متناه، فلابد وأن ينفد، وعند نفاد لحمه لابد من طريق آخر في تبديل الجلد، ولم يكن ذلك الطريق مذكورا أولا والله أعلم. اهـ.
سؤالان:
السؤال الأول:
قوله: {لِيَذُوقُواْ العذاب} أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للمعزوز: أعزك الله، أي أدامك على العز وزادك فيه.
وأيضا المراد ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب، وإلا فهم ذائقون مستمرون عليه.
السؤال الثاني:
أنه إنما يقال: فلان ذاق العذاب إذا أدرك شيئا قليلا منه، والله تعالى قد وصف أنهم كانوا في أشد العذاب، فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنهم ذاقوا العذاب؟
والجواب: المقصود من ذكر الذوق الإخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق المذوق، من حيث أنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الخازن في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا} هذا وعيد من الله عز وجل للذين أقاموا على كفرهم وتكذيبهم بما أنزل الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم من سائر الكفار والمعنى إن الذين جحدوا ما أنزلت على رسولي محمد من آياتي الدالة على توحيدي وصدق رسولي محمد صلى الله عليه وسلم سوف نصليهم نارًا أي ندخلهم نارًا نشويهم فيها: {كلما نضجت جلودهم} يعني احترقت {بدلناهم جلودًا غيرها} يعني غير الجلود المحترقة.
قال ابن عباس: يبدلون جلودًا بيضاء كأمثال القراطيس.
وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر بن الخطاب فقال عمر للقارئ: أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ: عندي تفسيرها تبدل في كل ساعة مائة مرة فقال عمر للقارئ: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره البغوي بغير سند.
وقال الحسن تأكلهم النار في كل يوم سبعين ألف مرة.
عن أبي هريرة يرفعه ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة.
ثلاثة أيام للراكب المسرع.
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرس الكافر أو قال ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام».
فإن قلت كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعص؟ قلت يعاد الجلد الأول في كل مرة وإنما قال جلودًا غيرها لتبديل صفتها كما تقول صغت من خاتمي خاتمًا غيره، فالثاني هو الأول غير أن الصناعة بدلت الصفة وقيل إن العذاب للجملة الحساسة وهي النفس التي عصت فإن كان كذلك فغير مستحيل إن الله يخلق للكافر في كل ساعة من الجلود ما لا يحصى لتحترق ويصل ألمها وقيل المراد بالجلود السرابيل وهوقوله: {سرابيلهم من قطران} والمعنى كلما نضجت سرابيلهم واحترقت بدلناهم سرابيل من قطران غيرها لأن الجلود لو احترقت لفنيت وفي فنائها راحتها وقد أخبر الله عنهم أنهم لا يموتون فيها ولا يخفف عنهم من عذابها ولأن الجلد أحد أجزاء الجسم فثبت أن التبديل إنما هو للسرابيل وقيل يبدل الجلد من نفس الكافر فيخرج من لحمه جلدًا وقيل إن الله تعالى يلبس أهل النار جلودًا لا تألم لتكون زيادة في عذابهم كلما احترق جلد بدلهم جلدًا غيره.
وقوله تعالى: {ليذوقوا العذاب} أي إنما فعلنا بهم ذلك ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته وإنما أتى بلفظ الذوق مع ما ينالهم من عظم العذاب الذي نالوه إخبارًا بأن إحساسهم به في كل حال فإحساس الذائق في تجديد وجدان الذوق من غير نقصان في الإحساس {إن الله كان عزيزًا} يعني في انتقامه ممن ينتقم من خلقه لا يغلبه شيء ولا يمتنع عليه أحدًا {حكيمًا} يعني في تدبيره وقضائه وأنه لا يفعل إلاّ ما هو الصواب. اهـ.